samedi 5 septembre 2009

الحقيقة

الحقيقة

ذ. محمد الشبة

تقديم:

يحيل مفهوم الحقيقة على معنيين رئيسيين هما: الواقع والصدق. وهي بذلك تأتي في مقابل الوهم والكذب. هكذا فالفكرة الصادقة والحقيقية هي تلك التي تعبر عن حكم مطابق للواقع الفعلي. كما تعتبر الحقيقة كل فكرة تمت البرهنة عليها عقليا ومنطقيا. من هنا يتم الحديث عن الحقيقة في مجالات متعددة: دينية وعلمية واجتماعية...الخ. وفي جميع الأحوال، فالحقيقة يتم التعبير عنها دائما بواسطة اللغة والخطاب، والإنسان دائم البحث عنها، وهو يستخدم في ذلك عدة وسائل وطرق. فما هي طرق الوصول إلى الحقيقة؟ هل طريق بلوغها هو الرأي أم العقل؟ وكيف يمكن التمييز بين الخطابات التي تعبر عن الحقيقة وتلك التي لا تعبر عنها؟ ما هي المعايير التي يجب اعتمادها لتحديد ما هو حقيقي؟ وأخيرا لماذا نبحث عن الحقيقة؟ أين تكمن قيمتها؟

І- الرأي والحقيقة:

* إشكال المحور: ما علاقة الرأي بالحقيقة؟ وكيف يمكن التمييز بينهما؟ ما هو الطريق

المؤدي إلى الحقيقة؟ هل هو العقل أم الرأي؟

1- موقف باسكال:PASCAL

يرى باسكال أن العقل ليس هو المصدر الوحيد للحقيقة، إذ أن هناك مصادر أخرى لبلوغها. هكذا يعتبر أن للقلب حقائقه التي يعجز العقل على الاستدلال عليها، وهذا العجز من طرف العقل لا يجب في نظر باسكال أن يجعلنا نشك في حقائق القلب التي هي مبادئ أولى تدرك بشكل حدسي مباشر، وتستنبط منها كل الحقائق الأخرى.

هكذا يقول باسكال بمبادئ أولية وفطرية،مثل المكان والزمان والحركة والأعداد، وهي مبادئ صادرة عن القلب، كما أنها يقينية وغير قابلة للشك، وهي تشكل الأساس الذي ينبغي أن يستند عليه العقل لاستنتاج الحقائق الأخرى.

وفي هذا السياق يميز باسكال بين المبادئ الأولية التي يشعر بها القلب، والتي لا يمكن للعقل أن يطالبه بالبرهنة عليها، وبين القضايا التي تستخلص من تلك المبادئ، والتي لا يمكن للقلب أيضا مطالبة العقل بأن يشعر بها.

هكذا يمكن القول انطلاقا من موقف باسكال بأن هناك آراء واعتقادات صادرة عن وجدان الإنسان وأعماقه دون أن يكون بالإمكان البرهنة عليها عقليا. فهل يتعارض هذا النوع من الآراء ذات الطابع الوجداني والقلبي مع الحقائق العقلية والعلمية؟

2- موقف أفلاطون: PLATON

يذهب أفلاطون إلى أن طريق بلوغ الحقيقة هو التأمل العقلي الذي يمكن الفيلسوف من تجاوز الآراء والمعتقدات السائدة، والارتقاء إلى عالم المثل من أجل إدراك الحقائق اليقينية والمطلقة. هكذا فالحواس حسب أفلاطون لا تمدنا سوى بالظلال أو الأوهام، التي هي مجرد أشباه حقائق أو آراء ظنية صادرة عن عامة الشعب، بينما تعتبر الفلسفة هي العلم الموضوعي بالحقيقة، وهي تعتمد على الجدل الصاعد كمنهج عقلي تأملي يتعارض تماما مع الآراء الظنية السائدة.

3- موقف باشلار: BACHELARD

يميز باشلار بين الحقيقة العلمية والرأي، ويقر بتعارضهما؛ إذ يعتبر هذا الأخير عائقا إيبستمولوجيا يحول دون الوصول إلى المعرفة العلمية الصحيحة.

هكذا اعتبر باشلار بأن الرأي دائما على خطأ مادام أنه غير قابل للتبرير النظري العلمي،

ومادام أنه مرتبط بالحاجات والمنافع المباشرة، ويعتمد على التلقائية والعفوية في تناوله للأمور. وهذا ما جعل باشلار يتحدث عن قطيعة إبيستمولوجية بين الرأي والحقيقة العلمية، إذ تبنى معارف الفكر العلمي بناءا نظريا وعقليا. كما تخضع لمناهج عقلية ووسائل علمية تمنحها طبيعة خاصة، تجعلها تختلف بشكل جذري عن الآراء العامية السائدة في المجتمع.

في هذا السياق يرى باشلار أن الفكر العلمي لا يتناول سوى القضايا التي يستطيع البرهنة عليها، كما أنه لا يطرح سوى الأسئلة التي يمكنه الإجابة عنها. وهذا ما يجعل الحقيقة العلمية مبنية ومؤسسة على قواعد العقل العلمي، في حين يسمح الرأي لنفسه بالاعتقاد في كل القضايا وطرح كل المسائل، حتى تلك التي لا يقوى على الإجابة عنها أو التدليل عليها.

أمام كل هذا وجب حسب باشلار تخطي الرأي والعمل على هدمه حتى لا يشكل عائقا أمام بلوغ المعرفة العلمية الصحيحة.

ІІ- معايير الحقيقة:

* إشكال المحور: ما هو معيار الحقيقة؟ وعلى ماذا يمكن تأسيسها؟

1- الموقف العقلاني: ديكارت واسبينوزا Descartes,Spinoza

تتعارض الحقيقة عند ديكارت مع الرأي، إذ أنها تعتمد على المنهج وعلى قواعد عقلية صارمة يمكن اختصارها في أربع قواعد رئيسية: البداهة، التحليل، النظام والمراجعة. وتتأسس الأفكار البديهية على مبدأ الحدس، في حين تتأسس الأفكار الأخرى على مبدأ الاستنباط. هكذا يحدد ديكارت للحقيقة معيارين رئيسيين هما: الحدس والاستنباط. والحدس عنده هو إدراك عقلي خالص ومباشر، ينصب على أفكار بديهية ومتميزة في الذهن بحيث لا تحتاج إلى استدلالات عقلية؛ كأن أدرك أنني موجود أو أن المثلث هو شكل ذو ثلاثة أضلاع. أما الاستنباط فهو إدراك غير مباشر للحقيقة، بموجبه يتم استخلاص حقائق جديدة من الحقائق البديهية الأولية على نحو منطقي صارم. ولذلك فالحقائق التي يتوصل إليها عن طريق الاستنباط لا تقل أهمية ويقينية عن الحقائق الحدسية الأولية، ما دامت صادرة عنها بواسطة حركة فكرية مترابطة ومتصلة تفضي إلى نتائج ضرورية.

هكذا فالحدس والاستنباط هما أساس المنهج المؤدي إلى الحقيقة. وبذلك فمعيار الحقيقة يتحدد أولا في البداهة المرتبطة بالحدس؛ إذ أن كل فكرة بديهية هي فكرة حقيقية تدرك بواسطة الحدس العقلي الخالص، كما يتحدد هذا المعيار ثانيا بواسطة التماسك المنطقي المرتبط بالاستنباط؛ إذ أن كل فكرة منسجمة منطقيا ومتطابقة مع قواعد الاستنباط العقلي تعتبر فكرة صحيحة ومنطقية.

وفي نفس السياق يحدد اسبينوزا معيار الحقيقة في البداهة التي تتمثل في كون الفكرة الصحيحة تحمل يقينها في ذاتها، إذ أنها تفرض نفسها على العقل بشكل واضح ومتميز لا يتطرق إليه أدنى قدر من الشك. هكذا فالحقيقة هي معيار ذاتها، وهي تشبه النور الذي ينكشف فيؤدي إلى انقشاع الظلام. من هنا يرى اسبينوزا أن الفكرة التامة هي تلك التي تملك في ذاتها كل الخصائص والعلامات الباطنية المميزة للفكرة الصحيحة.

2- الموقف التجريبي: جون لوك J.Locke

يرفض جون لوك معيار البداهة الذي قال به الفلاسفة العقلانيون كديكارت واسبينوزا، وهذا نابع من رفضه لوجود أفكار أولية وفطرية في العقل. هكذا اعتبر جون لوك أن العقل صفحة

بيضاء وأن التجربة هي التي تمده بالمعارف والأفكار. من هنا فالتجربة هي المعيار الأساسي

والوحيد للحقيقة. فالحواس تمدنا بالأفكار البسيطة كالامتداد والشكل والحركة، ثم يعمل العقل على التأليف بينها لإنتاج الأفكار المركبة كفكرة الجوهر والعلية واللامتناهي. هكذا فكل أفكارنا ذات أصل حسي، والحواس هي التي تمنح لأفكارنا الصدق والحقيقة. وإذا تعذر إرجاع فكرة ما إلى أصلها الحسي التجريبي، فهي فكرة وهمية وباطلة. فمعيار الحقيقة إذن هو مطابقتها للواقع الحسي التجريبي.

ІІІ- الحقيقة بوصفها قيمة:

* إشكال المحور: لماذا يرغب الإنسان في الحقيقة؟ وأين تكمن قيمتها؟ هل لها قيمة مطلقة أم نسبية؟ نظرية أم عملية؟

1- الموقف التقليدي: للحقيقة قيمة نظرية وأخلاقية مطلقة:

يبين لنا تاريخ الفلسفة الكلاسيكية أنه كانت للحقيقة قيمة نظرية مطلقة، وأنها كانت منشودة لذاتها؛ فالفلسفة عند اليونان كانت بحثا عن الحقيقة من أجل الحقيقة وليس لأي أغراض أومصالح أخرى. وقد جسد سقراط في حياته هذا الأمر؛ إذ تشبث بأفكاره إلى آخر لحظة في حياته حينما سيق به إلى الإعدام وهو متشبث بالحقيقة وساخر من قومه الذين يتشبثون بالأوهام والمعتقدات الباطلة.

وفي نفس السياق اعتبر كانط أن للحقيقة قيمة أخلاقية عليا ومطلقة وغير مشروطة. وهي بذلك تنشد لذاتها كحقيقة موضوعية نزيهة وبعيدة عن المنفعة والمصلحة الخاصة. فالصدق واجب في ذاته، ويجب على الإنسان أن يقول الحقيقة ويسلكها مهما كانت الظروف والشروط "لأن الكذب مضر بالغير دائما، حتى إن لم يضر إنسانا بعينه فهو يضر الإنسانية قاطبة، مادام يجرد منبع الحق من الصفة الشرعية."

2- الموقف المعاصر: للحقيقة قيمة عملية نسبية.

لقد ارتبطت قيمة الحقيقة في الفلسفة المعاصرة بقيم العصر كالمنفعة والعمل والمردودية والإنتاج، والإلتصاق بالواقع الإنساني. من هنا أصبحت للحقيقة قيمة عملية واقعية من جهة، وقيمة نسبية ومتغيرة من جهة أخرى. وفي هذا الإطار سنقدم تصورين لفيلسوفين معاصرين:

أ- تصور وليام جيمس: W.James

تكمن قيمة الحقيقة حسب الموقف البرجماتي المعاصر الذي يمثله وليام جيمس في كل ما هو نفعي، عملي ومفيد في تغيير الواقع والفكر معا. من هنا فالحقيقة ليست غاية في ذاتها، بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية أخرى. والأفكار الحقيقية هي تلك التي نستطيع أن نستعملها وأن نتحقق منها واقعيا، أما الأفكار التي لا نستطيع أن نستعملها وأن نتأكد من صلاحيتها فهي خاطئة. وعموما، يرى وليام جيمس، أن الأفكار الصادقة هي تلك التي تزيد من سلطاننا على الأشياء؛ فنحن نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية للاستفادة من قوى الطبيعة.

ب- تصور إريك فايل: ERIC.WEIL

يرى إريك فايل أن نقيض الحقيقة ليس هو الخطأ بل العنف. لذا فقيمة الحقيقة تكمن في إنشاء خطاب عقلاني متماسك، يلغي العنف لصالح المعنى. لقد حصل تغير في مشكل الحقيقة؛ بحيث لم تعد هذه الأخيرة تتمثل في تطابق الفكر مع الواقع وإنما تطابق الإنسان مع الفكر، أي مع الخطاب المتماسك. فالإنسان يعيش في عالم مليء بالعنف والشقاء والتقتيل والجوع، وعليه أن يفكر في هذا العالم من أجل إنتاج حقيقة ومعنى له، بواسطة خطاب معقول ومتماسك يكون هدفه هو إزالة العنف و تجسيد قيم التسامح والعقل على أرض الواقع.

الشخص

الشخص

ذ. محمد الشبة

يشير مفهوم الشخص إلى الذات الإنسانية بما هي ذات واعية ومفكرة من جهة، وذات حرة ومسؤولة من جهة أخرى. إذا كان الكثير من الفلاسفة قد ركزوا على جانب الفكر والوعي باعتبارهما يمثلان جوهر الشخص البشري، فإن هناك أبعاد أخرى تميز هذا الكائن؛ بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية وغيرها. فللشخص صفات جسدية متغيرة، كما أن له حياة نفسية متقلبة، ثم إنه حيوان سياسي وأخلاقي، محكوم بروابط وعلاقات مع الغير.

أمام كل هذه المحددات نجد أن مفهوم الشخص يثير الكثير من الإشكالات، من أهمها ما يلي:

- ما الذي يتغير في الشخص؟ وما الذي يبقى ثابتا؟ أين تتمثل هوية الشخص؟ هل هي هوية واحدة أم متعددة؟

- ما الذي يميز الشخص ويمنحه قيمة وتميز عن باقي الحيوانات والأشياء؟ وما الذي يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟

- بأي معنى يمكن النظر إلى الشخص كذات حرة ومسؤولة؟ ألا يمكن القول بأن حريته مشروطة بأوضاع اجتماعية؟

І - الشخص والهوية:

*إشكال المحور: ما الذي يكون الهوية الشخصية؟ وعلى ماذا تتأسس هوية

الشخص؟

1- موقف جون لوك: تحديد هوية الشخص انطلاقا من الشعور والذاكرة.

الشخص عند جون لوك كائن واع ومفكر، يتأمل ذاته ويدرك أنها مطابقة لنفسها في كل لحظة تمارس فيها التفكير والتعقل. ويربط لوك بين الفكر والشعور، وهذا الربط هو الذي جعله يستنتج أن الشعور هو ما يكون الهوية الشخصية للإنسان. كما يربط من جهة أخرى بين الذاكرة وهوية الشخص؛ إذ كلما امتد الشعور في الذاكرة إلا واتسعت معه هوية الشخص وتقوت. وهذا يعني أن الشعور والذاكرة هما مكونان أساسيان لهوية الشخص.

2- موقف شوبنهاور: الإرادة كأساس لهوية الشخص .

خلافا للفلسفات التي تحدد هوية الشخص انطلاقا من الوعي والذاكرة، يرى شوبنهاور أن هوية الشخص تتحدد بالإرادة، إرادة الحياة التي تظل ثابتة فينا حتى عندما ننسى ونتغير كلية.

هكذا وبالرغم من التحولات التي يحملها الزمن إلى الإنسان، فإنه يبقى فيه شيء لا يتغير، وهو الذي يمثل نواة وجوده الذي لا يتأثر بالزمن. وهذا الشيء لا يتمثل في الشعور المرتبط بالذاكرة، لأن أحداث الماضي يعتريها النسيان، والذاكرة معرضة للتلف بسبب الشيخوخة أو المرض. من هنا يرى شوبنهاور أن أساس هوية الشخص ونواة وجوده تتوقف على الإرادة التي تظل ثابتة وفي هوية مع نفسها، وهي التي تمثل ذاتنا الحقيقية والمحركة لوعينا وذاتنا العارفة.

ІІ- الشخص بوصفه قيمة:

*إشكال المحور: ما الذي يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟ ومن أين يكتسب قيمته

الأخلاقية من ذاته أم من علاقته بالآخرين؟

1- موقف كانط : للشخص قيمة مطلقة في ذاته.

يعتبر كانط بأن الشخص هو الذات التي يمكن أن تنسب إليها مسؤولية أفعالها. من هنا فالشخص هو كائن واع، وهو ما جعله يكتسب قيمة مطلقة في حين لا تتمتع الموجودات غير العاقلة إلا بقيمة نسبية. كما يعتبر الشخص غاية في ذاته، بحيث لا يمكن التعامل معه كمجرد وسيلة. وهذا يعني أنه يمتلك قيمة وكرامة لا تقدر بثمن.

ولكي يحافظ الشخص على احترامه كذات حرة وأخلاقية، يجب عليه أن يتصرف وفقا للأمر الأخلاقي المطلق بحيث يعامل الإنسانية في سلوكه كغاية وليس كوسيلة. هكذا فحرية الشخص عند كانط مقترنة بالتزامه بالأمر الأخلاقي الذي هو قانون عملي كلي ومطلق، يشكل مبدأ موضوعيا للإرادة الإنسانية، ويعامل الطبيعة الإنسانية كغاية في ذاتها.

2- موقف غوسدورف: قيمة الشخص لا تتحقق إلا من خلال مشاركته للغير.

بخلاف فلسفة كانط التي تناولت الشخص الأخلاقي من منظور نظري وعقلي مجرد، نجد أن غوسدورف يتناوله من منظور عملي واقعي. هكذا فقيمة الشخص الأخلاقي لا تتحقق إلا من خلال مشاركته للغير وأشكال انفتاحه عليه. فمنذ البدايات الأولى للوجود البشري والإنسان يعيش مع الآخرين ضمن أشكال من التعايش والتضامن التي سمحت للفكر الأخلاقي وغيره أن يتشكل على أرض الواقع. من هنا فالكمال الأخلاقي الشخصي لا يتحقق في مجال الوجود الفردي، بل في مجال الوجود الاجتماعي وفي أشكال التعايش مع الناس.

ІІІ- الشخص بين الضرورة والحرية:

*إشكال المحور: ما علاقة الشخص، بوصفه ذات حرة، بما يحمله من صفات وما

يصدر عنه من أفعال؟ هل هي أفعال صادرة عن إرادة حرة

أم محكومة بإشراطات؟

1- موقف العلوم الإنسانية: الشخص خاضع لحتميات مختلفة.

لقد اعتبر علم النفس الفرويدي بأن نفسية الإنسان تتحدد بشكل حاسم في مرحلة الطفولة، كما أن سلوكاته تقف وراءها نزعات لاشعورية توجه حياته دون أن يشعر. هكذا يحل اللاوعي محل الوعي، ويبدو الشخص خاضعا لنزعاته التدميرية العدوانية التي يختزنها "الهو".

ومن جهة أخرى بينت الدراسات الاجتماعية والأنثروبلوجية أن الكثير من أحاسيس الإنسان وأفكاره وسلوكاته مفروضة عليه من خلال التنشئة الاجتماعية. فالشخص لا يعدو أن يكون نتاجا لتفاعل بنيات وقواعد مؤسسية مختلفة تمارس عليه الإكراه من مختلف الزوايا؛ سواء تعلق الأمر بالبنيات النفسية أو اللغوية أوالمادية والاقتصادي. من هنا فقد انتهت العلوم الإنسانية إلى التأكيد على أن وعي الشخص بذاته يشوبه الوهم والغرور، وتحدثت عن موته واختفائه وسط العديد من المحددات التي تشرطه وتحاصره.

لكن هل يعني هذا غيابا تاما لحرية الشخص في بناء نفسه؟

2- الموقف الفلسفي: القول بحرية الشخص في بناء نفسه.

1- موقف سارتر: الشخص مشروع حرية تتحقق بشكل دائم.

يرى سارتر أن الإنسان كشخص هو مشروع مستقبلي، يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خلال اختياره لأفعاله بكل إرادة وحرية ومسؤولية، ومن خلال انفتاحه على الآخرين. ولتأكيد ذلك ينطلق سارتر من فكرة أساسية في فلسفته وهي "كون الوجود سابق على الماهية"، أي أن الإنسان يوجد أولا ثم يصنع ماهيته فيما بعد.إنه الكائن الحر بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم.

إن الشخص هو دائما كائن في المستقبل، تتحدد وضعيته الحالية تبعا لما ينوي فعله في المستقبل.فكل منعطف في الحياة هو اختيار يستلزم اختيارات أخرى، وكل هذه الاختيارات نابعة من الإنسان باعتباره ذاتا ووعيا وحرية.

2- موقف عزيز لحبابي: تصطدم حرية الشخص بشروط موضوعية.

يذهب لحبابي إلى أن كل فعل إنساني هو فعل قصدي يرمي إلى تحقيق نوايا وأهداف واعية. وهذا يستلزم من الذات الإنسانية تفهم الشروط الموضوعية والوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك الفعل. وهذه القصدية الواعية هي التي تضفي طابع الحرية على الفعل الإنساني، وتجعله يتميز عن الأفعال الآلية الصادرة عن دوافع غريزية كما هو الشأن عند الحيوانات.

هكذا فالكائن الإنساني يسعى إلى شخصنة أفعاله بما هو ذات حرة، وذلك بالسعي نحو اكتساب صفات تميزه كشخص وتضفي على أفعاله قيمة وغائية إنسانية. وبقدر ما أن الشخص حر ويسعى إلى تحقيق ذاته بحسب ما يريده في المستقبل، فهو أيضا ملزم أمام نفسه وأمام المجتمع، أي أن له قضايا إنسانية واجتماعية يضع نفسه في خدمتها. من هنا فإذا كان الشخص حرا وتتسم أفعاله بالقصدية، فإن حريته تصطدم بمحك الواقع وتختبر نفسها داخله؛ إذ لا بد للشخص أثناء إنجازه لأفعاله وتقريره لمشاريعه أن يتفهم شروط وجوده الواقعية.

هكذا فالحرية حسب عزيز لحبابي، ليست مجرد حرية نظرية ذاتية، بل إنها حرية مجتمعية وتاريخية، إنها حرية ملتزمة بقضايا المجتمع والآخرين.

هيكلة مقترحة

هيكلة مقترحة لمجزوءة السياسة

ذ. محمد الشبة

تقديم:

تقال السياسة على تدبير المعاش، بإصلاح أحوال جماعة مخصوصة على سنن العدل والاستقامة ( المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، د.عبد المنعم الحفني ). فالسياسة هي تجسيد لممارسة عليا تتم بين أفراد النوع البشري، ففيها يتم الانتقال من الاجتماع المؤقت والتلقائي إلى الاجتماع الدائم المتمثل في إقامة الدولة على مبادىء التعاقد الاجتماعي الذي يتنازل الأفراد بموجبه عن جزء من حرياتهم الفردية ليمتثلوا لسلطة الدولة من حيث أنها تمثل المجتمع عبر الأساليب الديمقراطية والانتخاب الحر.

فالسياسة إذن هي ممارسة للسلطة داخل المدينة أو الدولة، وبواسطتها يتم تثبيت القانون من خلال قوة عمومية تتجسد في مجموعة من الأجهزة والمؤسسات. هكذا يحيل مفهوم السياسة على مجموعة من المفاهيم المرتبطة به، مثل: الدولة، السلطة السياسية، الحق، القانون، العدالة...

وقد اعتبر أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي بطبعه، وأن "الأمر الذي يميز الإنسان بشكل خاص هو كونه يدرك الخير والشر، والأمر العادل والجائر، وكل العواطف الشبيهة بذلك، والتي يكون التواصل بها مؤسسا للأسرة وللدولة" ( أرسطو، السياسة، عن الكتاب المدرسي، مباهج الفلسفة، السنة الأولى باكلوريا، ص64 ). فالممارسة السياسية إذن تشكل أهم الممارسات البشرية، وهي التي تجعل الوجود الاجتماعي منظما وقائما على مبادىء عقلية قانونية وأخلاقية. ولهذا لا يتحدد مجال النظر السياسي بمفهوم الدولة فقط ، وإنما بمفاهيم أخرى مرتبطة بها كالحق والعدالة والعنف.

فالدولة ترتكز على قوانين تتوخى إحقاق الحق والإنصاف والعدالة والمساواة وتهذيب السلوك البشري. غير أن الناس مع ذلك، وتبعا لمصالح محددة، يلتجئون إلى ممارسة العنف على بعضهم البعض، مما قد يضطر الدولة إلى التدخل بقوانينها وأجهزتها القضائية إلى إحقاق الحق وتثبيت العدالة.

- فما الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟ وما الغاية منها؟ وكيف تمارس سلطتها السياسية؟

- ما العنف؟ ما هي أشكاله ومظاهره؟ وما هو دور العنف في التاريخ؟ وهل يمكن الإقرار بمشروعية العنف؟

- ما الحق؟ ما العدالة؟ وكيف تتحدد العلاقة بينهما؟

الدولة

تعتبر الدولة تنظيما سياسيا يكفل حماية القانون وتأمين النظام لجماعة من الناس تعيش على أرض معينة بصفة دائمة، وتجمع بين أفرادها روابط تاريخية وجغرافية وثقافية مشتركة. ولذلك لا يمكن الحديث عن الدولة في مجال ترابي معين إلا إذا كانت السلطة فيها مؤسساتية وقانونية، وأيضا مستمرة ودائمة لا تحتمل الفراغ.

كما يقترن اسم الدولة بمجموع الأجهزة المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع. هكذا تمارس الدولة سلطتها بالاستناد إلى مجموعة من القوانين والتشريعات السياسية التي تروم تحقيق الأمن والحرية والتعايش السلمي.

وهذا ما يجعلنا نتساءل عن المشروعية التي تتأسس عليها الدولة من جهة، وعن الغاية من وجودها من جهة أخرى؟

كما تدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة ممارسة الدولة لسلطتها السياسية؟ وعن مدى مشروعية الدولة في استخدام العنف؟

المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها

فيما يخص مفهوم المشروعية، ينبغي التمييز بين ما هو مشروع légitime) ) يستهدف إحلال العدل والحق، ومن ثمة فهو يشير إلى ما ينبغي أن يكون. أما ما هو شرعي (légal) فيعني ما هو عادل بالنظر إلى النصوص المتواضع عليها، ومن ثمة فهو يشير إلى ما هو واقعي وفعلي.

أما مفهوم الغاية فيدل على "ما لأجله إقدام الفاعل على فعله، وهي ثابتة لكل فاعل فعل بالقصد والاختيار، فلا توجد الغاية في الأفعال غير الاختيارية."(المعجم الشامل...مرجع سابق)

فما الغاية من وجود الدولة إذن؟ ومن يختار لها هذه الغاية؟ ووفق أية اسس ومنطلقات؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟

لقد قطع فلاسفة التعاقد الاجتماعي مع التصور الديني للدولة، ولذلك فمشروعية الدولة عندهم تستمد من الالتزام بمبادىء التعاقد المبرم بين الأفراد. وغايتها هي تحقيق المصلحة العامة المتمثلة حسب اسبينوزا في صيانة حقوق الأفراد ككائنات عاقلة، أو المتمثلة حسب هوبز في تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي.

وقد انتقد هيجل هذا التصور التعاقدي الذي يعتبر أن للدولة غاية خارجية مثل السلم أو الحرية أو الملكية، ورأى أن غاية الدولة لا تكمن في أية غاية خارجية، وإنما تتمثل في غاية باطنية؛ فالدولة غاية في ذاتها من حيث إنها تمثل روح وإرادة ووعي أمة من الأمم، وتعتبر تجسيدا للعقل المطلق.

وقد بين فيما بعد ماكس فيبر بأن هناك أنواع متعددة من المشروعية عبر التاريخ؛ مشروعية الحكم اعتمادا على التراث وحماية الماضي واستلهام الأجداد، والمشروعية المرتبطة بشخص ملهم يمثل سلطة دينية وأخلاقية أو إيديولوجية ويحكم باسمها. والمشروعية المؤسسية المستمدة من التمثيلية الانتخابية ومرجعية القانون والمؤسسات وتوزيع السلط.

فكيف تمارس الدولة سلطتها السياسية؟

المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية

إن مفهوم الطبيعة يدل على علة باطنية محركة للشيء، كما يشير إلى خاصية جوهرية تميز الشيء عن غيره. ولهذا فالتساؤل عن طبيعة السلطة السياسية يفترض التساؤل عن خصائصها وآلياتها وما يميز ممارستها داخل المجتمع. هل هي محصورة في أجهزة الدولة في إطار تصور سياسي مركزي وتراتبي أم أنها جملة قوى ميكروفيزيائية مشتتة وموزعة في ثنايا المجتمع؟

هنا يمكن تقديم أطروحة ألتوسير الذي يرى أن السلطة تمارس من خلال أجهزة الدولة سواء تعلق الأمر بأجهزتها القمعية، كالإدارة والجيش والشرطة والسجون...، أو بأجهزتها الإيديولوجية كالمدرسة والإعلام والنقابة والأحزاب...الخ.

وفي مقابل هذا التصور الذي يحصر السلطة في مجموعة من الأجهزة، في إطار تصور سياسي مركزي، يمكن الحديث عن تصور ميشيل فوكو الذي يعتبر أن السلطة تسري في الجسم الاجتماعي برمته، وأنها الاسم الذي يمكن إطلاقه على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين.

وإذا كان ألتوسير يتحدث عن استعمال الدولة لأجهزتها القمعية في تثبيت سلطتها والإلزام باحترام القوانين، فإلا أي حد يكون للدولة الحق والمشروعية في استخدام العنف؟

المحورالثالث: الدولة بين الحق والعنف

حينما نتحدث عن الدولة بين الحق والعنف، فإننا نثير بالضرورة إشكالية العلاقة بين الدولة كأجهزة ومؤسسات منظمة للمجتمع، وبين الأفراد الخاضعين لقوانينها. فإذا انبنت هذه العلاقة على احترام المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها، فإن ممارسة الدولة تكون في هذه الحالة ممارسة مشروعة تجعلنا نتحدث عن دولة الحق، أما إذا كانت هذه العلاقة مبنية على أسس غير أخلاقية وغير قانونية، فإنها ستكون مؤسسة على القوة والعنف وهاضمة للحقوق والحريات الفردية والجماعية.

فما المقصود بمفهومي الحق والعنف؟

يحدد المعجم الفلسفي لأندري لالاند الحق باعتباره "ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية، وما هو مشروع وقانوني في مقابل ما هو واقعي وفعلي". كما يحدده كانط باعتباره يحيل إلى "مجموع الشروط التي تسمح لحرية كل فرد بأن تنسجم مع حرية الآخرين".

أما العنف فيمكن القول بأنه "اللجوء إلى القوة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته، وهو ممارسة القوة ضد القانون أو الحق". (المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة،د.عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، الطبعة الثالثة،2000)

هكذا يتبين أن الحق هو نقيض العنف؛ إذ أن الأول يمارس بإرادة الأفراد ويضمن لهم حرياتهم المشروعة، في حين أن الثاني يمارس ضد إرادتهم ويغتصبهم حرياتهم.

فإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن البحث عن مشروعية لممارسة الدولة العنف ضد الأفراد أوالجماعات؟ وهل العنف ضروري للدولة لكي تمارس سلطتها؟ ألا يتعارض العنف في هذه الحالة مع الحق والقانون؟

لمعالجة هذا الإشكال يمكن توظيف أطروحة ماكيافيل الذي يرى بأنه لا يمكن للأمير أن يتحلى بكل الفضائل الإنسانية المحمودة، من أجل الحفاظ على سلطانه، بل عليه أن يلجأ إلى استعمال العنف والشر إذا اقتضت الضرورة ذلك، وما دامت الغاية تبرر الوسيلة، أو توظيف أطروحة ماكس فيبر الذي يعطي للدولة الحق في ممارسة العنف المادي، إذ هي وحدها تمتلك هذا الحق وتحتكره، فهو الوسيلة المميزة لها.

ويمكن معارضة هاتين الأطروحتين بأطروحة جاكلين روس التي تعتبر أن دولة الحق هي ممارسة معقلنة لسلطة الدولة، يخضع فيها الحق والقانون إلى مبدإ احترام الشخص البشري وضمان كرامته الإنسانية وذلك ضد كل أنواع العنف والقوة والتخويف التي قد يتعرض لها. إن الفرد في دولة الحق هو قيمة عليا ومعيار أسمى لصياغة القوانين والتشريعات التي تمنع كل أنواع الاستعباد والاضطهاد التي قد يتعرض لها.

العنف

وهذا الإشكال المتعلق بمشروعية العنف هو الذي نجده في المحور الثالث من درس العنف. ولذلك يمكن معالجته انطلاقا من موقف ماكس فيبر الذي يتحدث عن مشروعية العنف المادي الممارس من طرف الدولة، وعن حقها في احتكار هذا النوع من العنف، مستشهدا بتروتسكي الذي يرى "أن كل دولة هي جهاز مؤسس على العنف".

ويمكن معارضة ذلك بموقف غاندي الذي يرى أن العنف هو دوما عنف، وأنه رذيلة، وأن العنف هو القانون الذي يحكم النوع الحيواني بينما اللاعنف هو الذي يحكم النوع الإنساني. كما يمكن استثمار موقف إريك فايل الذي يرى أن الفلسفة هي رفض للعنف بصفة مطلقة، وان منطلقها وهدفها النهائي هو اللاعنف أي اختيار الخطاب العقلي المتماسك.

إن العنف واقعة أساسية في تاريخ المجتمعات البشرية، وهو يعتمد على تقنيات ووسائل مختلفة، كما يتخذ أشكالا متعددة.

من هنا سيتم التساؤل في المحور الأول عن طبيعة العنف؟ وعن أشكاله ومظاهره المختلفة؟

وهنا يمكن الحديث مع إيف ميشو YVES MICHAUD عن أشكال مختلفة من العنف المادي التي ميزت المجتمعات البشرية في القرن العشرين؛ كالحروب والإبادات والاضطهاد ومعسكرات الاعتقال والإجرام وغير ذلك. وقد ساهمت التكنولوجيا في تطوير وسائل العنف المادي، كما ارتبط العنف بوسائل الإعلام التي أدت إلى انتشاره والإخبار عنه.

غير أن بيير بورديو يتحدث عن شكل آخر من العنف، هو العنف الرمزي الذي هو شكل لطيف من العنف يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته وتواطئه. يقول بورديو: "العنف الرمزي هو عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياهم أنفسهم، وهو عنف يما3س عبر الطرق والوسائل الرمزية الخالصة، أي عبر التواصل وتلقين المعرفة". ( نص إضاءة لبورديو، مباهج الفلسفة، السنة الثانية باكلوريا، ص144)

وبالرغم من ازدياد حدة العنف في المجتمعات المعاصرة، فإن العنف ظاهرة تاريخية لا تخلو منها أمة أو قبيلة أو دين؛ " فالجماعة مستعدة دوما للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدسة. الإنسان بحاجة إلى عنف...لكي يعيش ولكي يجد له معنى على الأرض". (محمد أركون المرجع السابق، ص144)

من هنا يمكن التساؤل في المحور الثاني عن دور العنف في التاريخ؛ فما هو دور العنف في التاريخ؟ وكيف يتولد العنف في تاريخ المجتمعات البشرية؟

ويمكن أن نستثمر هنا موقف ماركس الذي يبين ظاهرة العنف من خلال الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأول للتاريخ؛ " فالمضطهدون والمضطهدون أقاموا بينهم حروبا لا تتوقف، معلنة أحيانا وخفية تارة أخرى". ( ماركس، المرجع السابق، ص145) ففي عصر سيادة البورجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) أصبح المجتمع منقسما إلى معسكرين متعاديين، أي إلى طبقتين متعارضتين تعارضا كليا هما البورجوازية والبروليتاريا. والصراع الطبقي قد يتخذ طابعا فرديا لا يعيه الفرد ذاته، كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي أو إيديولوجي واضح.

ويمكن تقديم تحليل آخر لظاهرة العنف في التاريخ، هو ذلك الذي يقوم به فرويد حيث يربط العنف بطبيعة الجهاز النفسي للإنسان، الذي يعتبر كائنا عدوانيا وشرسا بطبعه. ولذلك لا يمكن سوى قمع العنف وكبح جماحه دون التمكن من القضاء عليه، ما دام يعاود الظهور حينما يتم إلغاء الزجر في فترات الحرب. وقد عرف مسار العنف تطورا في تاريخ البشرية؛ حيث تم الانتقال من العنف العضلي إلى العنف الذي يستخدم الأدوات، ثم إلى عنف عقلي سيشكل قوى موحدة ضد عنف الأقوى. وهذا ما سيؤدي إلى ظهور مفهوم الحق كقوة جديدة ضد العنف.

الحق والعدالة

وإذا انتقلنا إلى درس الحق والعدالة، سنجد أن هناك تداخلات وتقاطعات بين هذين المفهومين تؤدي إلى بؤرة من الإشكالات.

فما المقصود أولا بالعدالة؟

يدل لفظ العدالة في تداوله العام على احترام حقوق الغير والدفاع عنها، كما يدل على الخضوع والامتثال للقوانين.

وتدل العدالة في معجم لالاند على صفة لما هو عادل، ويستعمل هذا اللفظ في سياق خاص عند الحديث عن الإنصاف Equité) ) أو الشرعية légalité) ). كما يدل لفظ العدالة تارة على الفضيلة الأخلاقية، وتارة على فعل أو قرار مطابق للتشريعات القضائية. كما يدل اللفظ فلسفيا على ملكة في النفس تمنع الإنسان عن الرذائل، ويقال بأنها التوسط بين الإفراط والتفريط.

هكذا يمكن الحديث عن مستويين في العدالة:

- مستوى يرتبط بالمؤسسات القانونية والقضائية التي تنظم العلاقات بين الناس في الواقع.

- ومستوى يرتبط بالعدالة كدلالة أخلاقية، وكمثال أخلاقي كوني يتطلع الجميع لاستلهامه.

أما فيما يخص مفهوم الحق، فيمكن القول بأن له دلالتين رئيسيتين:

- دلالة في المجال النظري والمنطقي؛ حيث يعني اليقين والصدق والاستدلال السليم.

- ودلالة في المجال العملي؛ باعتباره قيمة تؤسس للحياة الاجتماعية والممارسة العملية

للإنسان.

وهذه الدلالة الثانية هي التي تجعله يتقاطع مع مفهوم العدالة.

ويتخذ مفهوما الحق والعدالة أبعادا متعددة؛ طبيعية وأخلاقية وقانونية وسياسية، كما يرتبطا بمجموعة من المفاهيم الأخرى؛ كالطبيعة والثقافة والإنصاف والمساواة. وداخل هذه العلاقات يمكن إثارة مجموعة من الإشكالات من قبيل:

- الحق بين الطبيعي والثقافي.

- العلاقة بين الحق والعدالة.

- العدالة بين الإنصاف والمساواة.

نبدأ بالإشكال الأول: الحق بين الطبيعي والوضعي.

حينما نتحدث عن الحق الطبيعي، فإننا نتحدث عن مجموع الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته كإنسان. وقد كان رجوع فلاسفة الحق الطبيعي، كهوبز واسبينوزا وروسو، إلى حالة الطبيعة بهدف معرفة الطبيعة الإنسانية وتأسيس المجتمع انطلاقا منها، حتى تكون الحقوق والتشريعات عادلة ومناسبة لأصل الطبيعة الإنسانية، وغير متعارضة معها.

وصحيح أن هؤلاء الفلاسفة اختلفوا في تصورهم لحالة الطبيعة ولأصل الإنسان، إلا أنهم يشتركون في مبدإ أساسي هو جعل الطبيعة المفترضة للإنسان أساسا لكل حقوقه في الحالة المدنية أو الاجتماع. من هنا فللإنسان حسب هذا التصور الطبيعي للحق، حقوق لا يمكن المساس بها، وهي حقوق مطلقة وكونية.

ويمكن معارضة هذا التصور بالتصور الوضعي الذي يرفض تأسيس الحق على أية اعتبارات ميتافيزيقية أو افتراضات عقلية؛ إذ لا وجود لحق غير الحق الوضعي الفعلي الذي يتحدد انطلاقا من اعتبارات واقعية، ومن موازين القوى المتصارعة على أرض الواقع. وهنا يرى هانز كيلسن أن الحق نسبي بنسبية المبادئ التي يرتكز عليها، وأنه لا وجود لحق خارج إطار القانون المتجسد في المؤسسات القضائية والتنفيذية التي تفرضه في الواقع.

وإذا كان الحق لا يتجسد إلا من خلال القوانين التي وضعت بهدف تحقيق العدالة والإنصاف والمساواة بين الأفراد، فكيف تتحدد علاقة الحق بالعدالة؟ وهل يمكن اعتبار العدالة أساسا للحق؟ وهل هناك وجود للحق خارج إطار القوانين التشريعية والقضائية الممثلة للعدالة؟

العدالة كأساس للحق:

يمكن أن نقدم هنا تصور اسبينوزا الذي يعتبر أن العدالة هي تجسيد للحق وتحقيق له، فلا يوجد حق خارج عدالة قوانين الدولة. فالعدل يتمثل في إعطاء كل ذي حق حقه طبقا للقانون المدني، وأما الظلم فهو سلب شخص ما حقه بمخالفة هذا القانون.

لكن ألا يمكن أن نعتبر أن الحق يسمو على قوانين العدالة وتشريعاتها القضائية، وأن هذه الأخيرة قد تكون جائرة وهاضمة للحقوق المشروعة للأفراد؟

معنى ذلك أنه يجب البحث عن أساس آخر للحق غير العدالة وقوانينها؟

هنا يمكن استدعاء أطروحة شيشرون التي يرى صاحبها أن المؤسسات والقوانين لا يمكن أن تكون أساسا للحق، وانه يجب البحث عن هذا الأساس في الطبيعة الخيرة للإنسان التي تتمثل في الميل إلى حب الناس الذي هو أساس الحق. هكذا يرى ششيرون أنه " طالما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى". ( منار الفلسفة، س2باكلوريا، ص166)

لكن المشكل الذي تطرحه نظرية شيشرون هو طابعها المثالي؛ إذ أن الناس في الواقع لا تصدر عنهم دائما سلوكات خيرة إما بسبب نزوعاتهم العدوانية كما يرى البعض، أو بسبب الصراع حول المصالح كما يرى البعض الآخر.

وإذا كان الناس متفاوتين في الواقع بسبب الاختلافات الموجودة بينهم في المؤهلات والمزايا والمراتب الاجتماعية وغير ذلك، فهل ينبغي تطبيق العدالة بينهم بالتساوي، بحيث يكون الناس أمامها سواسية، أم يجب إنصاف كل واحد منهم بحسب تميزه عن الآخرين؟ وبتعبير آخر؛ إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع، فهل بإمكانها إنصاف جميع أفراده؟

العدالة بين المساواة والإنصاف:

لمقاربة هذا الإشكال، يمكن تقديم أطروحتين متباينتين؛ الأولى لألان (Alain) [ إميل شارتيي] الذي يرى أنه لا يمكن الحديث عن الحق إلا في إطار المساواة بين الناس. فالقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية. والحق لا يتجسد إلا داخل المساواة باعتبارها ذلك الفعل العادل الذي يعامل الناس بالتساوي بغض النظر عن التفاوتات القائمة بينهم. وفي هذا الإطار يقول ألان: " يسود الحق فقط حين يتساوى طفل صغير يحمل نقوده ناظرا إلى المعروضات بعيون متلهفة، مع الخادمة الأكثر شطارة ". (في رحاب الفلسفة، س2باكلوريا،مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، ص166).

أما الأطروحة الثانية فيقدمها ماكس شيلر، الذي يذهب إلى القول بأن العدالة لا تتمثل في المطالبة بالمساواة؛ لأنها مساواة جائرة ما دامت لا تراعي الفروق بين الأفراد فيما يخص الطبائع والمؤهلات التي يتوفرون عليها. فالعدالة المنصفة هي التي تراعي اختلاف الناس وتمايز طبائعهم ومؤهلاتهم. ومن الظلم أن نطالب بالمساواة المطلقة بين جميع الناس. إن وراء هذه المطالبة بالمساواة كراهية وحقد على القيم السامية، ورغبة دفينة في خفض مستوى الأشخاص المتميزين إلى مستوى الأشخاص الذين هم في أسفل السلم.

الغير

الغير

ذ. محمد الشبة

جاء في معجم روبير بأن "الغير هم الآخرون من الناس بوجه عام". كما نجد تحديدا في معجم لالاند الفلسفي جاع فيه مايلي: "الغير هو آخر الأنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه أنا آخر". ويقول جان بول سارتر: "الغير هو الآخر، الأنا الذي ليس أنا". انطلاقا من هذه التحديدات يمكن أن نلاحظ بأن الغير هو مخالف ومشابه للأنا في نفس الوقت؛ إنه مماثل له في الإنسانية، أي يتمتع مثله بمقومات الشخص من وعي وحرية وكرامة وغير ذلك. لكنه مع ذلك يختلف عنه في الكثير من الخصائص المتعلقة بالجوانب السيكولوجية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك. وإذا كان ديكارت قد جعل الأنا منغلقا على ذاته؛ يعيش نوعا من العزلة الأنطلوجية والإيبيستيمية، فإن هيغل أعاد الاعتبار للغير واعتبر وجوده ضروريا بالنسبة لوجود الأنا ووعيه بذاته. انطلاقا من هنا يطرح السؤال التالي: ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ أو ما الذي يميز وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ وإذا كانت معرفة الموضوعات الطبيعية ممكنة بفضل تطور العلوم الدقيقة، فإن معرفة الغير كوعي آخر تطرح العديد من الصعوبات؛ فهل معرفة الغير ممكنة؟ وكيف تتم معرفته بوصفه وعيا؟ غير أن العلاقة بين الأنا والغير لا تنحصر في المستوى المعرفي، بل تتجلى في مستويات عدة؛ عاطفية وأخلاقية واجتماعية...فما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود داخل هذه المستويات بين الأنا والغير؟ وعلى ماذا يجب أن تتأسس هذه العلاقة؟

І- وجود الغير:

*إشكال المحور: ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ وما مميزات

الوجود مع الغير؟

1- موقف مارتن هايدغر:

يحلل هايدغر معنى الوجود مع الآخرين، فيخلص إلى أن الذات تفقد تميزها وهويتها كاختلاف عندما تدخل في حياة مشتركة مع الغير. هكذا يتميز الوجود مع الغير بخاصية التباعد الذي قد يعني غياب تفاهم وتعاطف بين الأنا والغير.فالأنا في علاقته مع الغير يوجد تحت قبضته وسيطرته، بحيث يقوم هذا الأخير بإفراغ الأنا من إمكانياته ومميزاته الفردية ويجعله تابعا له.

إن الغير يمارس على "الموجود هنا" هيمنة خفية، خصوصا وأن مفهوم الغير غير محدد بدقة بحيث أن الذات هي الأخرى جزء منه، وبانتمائها له تزيد من هيمنته وسلطته عليها. ويتجلى هذا الانتماء في وجود روابط عرفية وقانونية مشتركة بين الأنا والغير، وهي التي يستثمرها هذا الأخير من أجل بسط هيمنته على الذات وإحكام قبضته عليها. ويؤكد هايدغر على خاصية التشابه أو اللاتمييز التي توجد بين الأنا والغير، بحيث تذوب الذات في الغير وتفقد تميزها وتفردها الخاص. هكذا يعمل الآخرون على خلق ذوات متشابهة، ويساهمون في اختفاء هوية الفرد وذوبانه في حياة الجماعة.

2- موقف جان بول سارتر:

يرى سارتر أن وجود الغير ضروري من أجل وجود الأنا ومعرفته لذاته، وذلك واضح في قوله: "الغير هو الوسيط الضروري بين الأنا وذاته". من هنا فالغير هو عنصر مكون للأنا ولا غنى له عنه في وجوده. غير أن العلاقة الموجودة بينهما هي علاقة تشييئية، خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل مادام يعامل بعضهما البعض كشيء وليس كأنا آخر. هكذا فالتعامل مع الغير كموضوع مثله مثل الموضوعات والأشياء يؤدي إلى إفراغه من مقومات الوعي والحرية والإرادة. ويقدم سارتر هنا مثال النظرة المتبادلة بين الأنا والغير؛ فحين يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية وحرية، وما إن ينتبه إلى أن أحدا آخر يراقبه وينظر إليه حتى تتجمد حركاته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقائيتها. هكذا يصبح الغير جحيما، وهو ما تعبر عنه قولة سارتر الشهيرة:"الجحيم هم الآخرون".

إن نظرة الغير إلي تشلني من إمكانياتي ومقوماتي كأنا، فتعمل على تجميد حركاتي وتسلبني إرادتي وحريتي. إن نظرة الغير إلي تقلقني لأنها مصحوبة بتقديرات لا يمكن معرفتها، خصوصا التقديرات المرتبطة بأحكام القيمة.

هكذا يتحدد وجود الغير مع الأنا من خلال عمليات الصراع والتشييء والاستلاب. لكن مع ذالك يعتبر سارتر أن وجود الغير شرط ضروري لوجود الأنا و وعيه بذاته بوصفه ذاتا حرة ومتعالية.

ІІ- معرفة الغير:

*إشكال المحور: هل معرفة الغير ممكنة؟ وكيف يتم إدراك الغير ومعرفته

بوصفه وعيا؟

1- موقف ماكس شيلر:

يرى ماكس شيلر أن معرفة الغير ممكنة، وأنها معرفة تتم من خلال الإدراك الكلي الذي يجمع بين إدراك المظاهر الجسمية الخارجية وإدراك الحالات النفسية والفكرية الداخلية.هكذا فمعرفة الغير لا تتم من خلال تقسيمه إلى ظاهر وباطن، إلى جسم وروح؛ بحيث أن الأول يدرك خارجيا، والثانية تدرك داخليا، إن معرفة بهذا الشكل غير ممكنة لأن الغير كلا لا يقبل القسمة، ومعرفته لا تتم إلا بوصفه كذلك.

من هنا يرى شيلر أنه لا يمكن تجزيء ظاهرة التعبير لدى الإنسان إلى وحدات صغرى لإعادة تركيبها لاحقا، بل يجب إدراكها كوحدة غير قابلة للقسمة إلى أجزاء. فمعرفة الغير لا تتم من خلال الملاحظة والاستقراء العلميين، لأن نمط معرفة الغير كأنا آخر غير مماثلة لنمط المعرفة المتعلقة بالظواهر الطبيعية، بل إنها معرفة تتم من خلال التعاطف معه، والنفوذ إلى أعماقه من خلال الترابط الموجود بين تعبيراته الجسدية ومشاعره الباطنية؛ فحقيقة الغير تبدو مجسدة فيه كما يبدو ويتجلى للأنا، حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لمعناها ودلالاتها مباشرة كما تظهر؛ الباطن يتجلى عبر الظاهر ولا انفصال بينهما.

2- موقف غاستون بيرجي:

يجسد غاستون بيرجي موقفا يرى من خلاله أن معرفة الغير غير ممكنة، لأن بينه وبين الأنا جدارا سميكا لا يمكن تجاوزه. هكذا فتجربة الأنا الذاتية معزولة وغير قابلة أن تدرك من طرف الغير. فالأنا يعيش تجربة حميمية مع الذات تحول دون تحقيق أي تواصل بينه وبين الغير. فلا يمكن للآخرين اختراق وعيي، كما لايمكنني نقل تجربتي الداخلية لهم حتى ولو تمنيت ذلك، لأنني أشعر بالعزلة وأعيش في قلعة منيعة يستعصى على الغير اقتحامها. وهذه العزلة متبادلة بين الأنا والغير؛ فمثلما أن أبواب عالمي موصدة أمامه، فكذلك أبواب عالمه موصدة أمامي. ويتبين هذا من خلال تجربة الألم مثلا؛ فعندما يتألم الغير ويبكي أواسيه وأشاطره المعاناة، غير أنني لا يمكنني أبدا أن أعيش بنفس الكيفية تجربة بكائه الذاتية، لأنها تجربة شخصية خاصة به وحده دون غيره من الناس.

هكذا فبالرغم من سعي الإنسان الدؤوب نحو تحقيق التواصل مع الغير، كحاجة ملحة داخله، فإن الغير يظل سجينا في آلامه ومنعزلا في ذاته ووحيدا في موته.

ІІ- العلاقة مع الغير:

* إشكال المحور: ماهي الرهانات التي تنشأ عن علاقة الأنا بالغير؟ وعلى

ماذا تتأسس هذه العلاقة؟

1- موقف إيمانويل كانط:

يؤسس كانط العلاقة بين الأنا والغير على مبادئ أخلاقية وعقلية كونية. ويتجلى ذلك من خلال حديثه عن الصداقة باعتبارها علاقة تقوم على مشاعر الحب والاحترام المتبادلة بين شخصين. وغاية الصداقة، في صورتها المثلى، هي غاية أخلاقية طيبة، تتمثل في تحقيق الخير للصديقين معا. وقد اعتبر كانط الصداقة واجبا عقليا يجب على الإنسان السعي نحو تحقيقه، وإن كان يتعذر تحقيقها في صورتها المثلى على أرض الواقع. كما تتطلب العلاقة مع الغير مراعاة المساواة بين عناصر الواجب الأخلاقي؛ بين مشاعر الحب من جهة، باعتبارها قوة جذب وتجاذب بين الصديقين، ومشاعر الاحترام من جهة أخرى، باعتبارها قوة دفع وتباعد بينهما.

لذلك يجب أن تكون مشاعر الصداقة متبادلة بين الصديقين، ومبنية على أساس أخلاقي خالص، وليس على أي منافع آنية ومباشرة.

2- موقف أوغست كونت:

إذا كان كانط قد أسس العلاقة بين الأنا والغير على أسس نظرية، مثالية وميتافيزيقية تنبني على ما ينبغي أن يكون وليس على ما هو كائن، فإن أوغست كونت على العكس من ذلك بنى أسس هذه العلاقة على استقراءات واقعية تترصد ما يحدث على مستوى الواقع الاجتماعي الفعلي. هكذا اعتبر كونت أن هناك واقعة يتعذر تجاوزها، وهي أن الإنسان يحيى بفضل الغير؛ بحيث لا يمكن للفرد مهما أوتي من قوة ومهارة أن يرد ولو جزءا بسيطا للإنسانية مقابل ما تلقاه منها. ويترتب عن هذه الواقعة أنه يجب على الإنسان أن يحيى من أجل الغير، عن طريق نكران الذات والتضحية من أجل الآخرين، من أجل ترسيخ قيم التعاطف والتضامن سعيا وراء تطوير الوجود البشري.

هكذا تعمل الغيرية على تهذيب الغريزة البشرية وتسييجها؛ فتطهر الفرد من أنانيته الهمجية وتكبح ميولاته المصلحية الضيقة، كما تعمل هذه الغيرية على الارتقاء بالأخلاق الإنسانية إلى مستوى من الفهم يتجاوز كل المقاربات اللاهوتية والميتافيزيقية.