samedi 5 septembre 2009

/هل يمكن إخضاع كل حقيقة للبرهنة؟

هل يجب إخضاع كل حقيقة للبرهنة؟

عندما نقبل بفكرة ما على أنها فكرة حقيقية، فنحن نخضعها للفحص عن طريق الاحتكام للعقل و البرهنة الاستدلالية، و هو ما قد يوحي أن معرفة ما تكون حقيقية إلا إذا كان مبرهن عليها. بالرغم من هذا يبدو أن البرهنة وحدها غير كافية، بحيث نطالب بحجج تستمد من الواقع المادي المحسوس ، بحيث يمكن أن نفحص معارفنا بالاحتكام إلى التجربة لمعرفة ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة. مما يعني أن اعتماد العقل وحده غير كاف لتشييد الحقيقة. و في هذه الحالة فالبرهنة ليست فقط غير كافية بل قد تصبح نوعا من الترف، لأن البرهان لا يسمح لنا بإدراك الحقيقة أو الخطأ.

بنوع من الاطلاقية هل يمكننا القول أن كل حقيقة يجب أن تكون قابلة للبرهنة؟ ألا يمكننا القول بضرورة التمييز بين أنواع الحقيقة، بعضها قابل للبرهنة و بعضها الآخر لا يقبل الخضوع للبرهنة؟ كما يمكننا أن نتساءل ألا يمكن للعقل أن يلجأ إلى طرق أخرى لكي نعرف هل معرفة ما معرفة حقيقية أم خاطئة؟ ألا يقودنا الأمر إلى حد افتراض إمكانية الاستغناء عن البرهنة؟ لكي نطرح سؤالا حاسما هل للبرهنة مصداقية للحكم على الحقيقة؟ ألا يمكن الاستناد إلى خصائص أخرى تكون أكثر صلابة من البرهنة في إثبات الحقيقة؟

1) كل حقيقة لا يمكن البرهنة عليها و بعض الحقائق لا يبرهن عليها.
ا) تعريف ما يمكن أن يكون حقيقيا أو خاطئا.
ضرورة التمييز بين الحقيقي و الواقعي: أشياء الواقع لا نقول عنها حقيقة أو خطأ. فخطابنا وأحكامنا المعرفية التي نصدرها على الواقع هي التي يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة. ونعني بالخطاب الذي ننتجه هو أنه عبارة عن مجموعة من الجمل (القضايا) و ليس فقط سلسلة من الكلمات الغير المنتجة للمعرفة مثل العبارات الاستفهامية، التعجبية ... إلخ. مثلا إذا قلنا (إذا ما أضفنا 2 إلى 2 فالنتيجة 4 ) فهي قضية قابلة لأن تكون صحيحة أو خاطئة، نفس الأمر حين أقول " هذه الشجرة مكسوة بالأوراق" . و هي ليست قولي " هذه الشجرة أه لو كنت غنيا"
فالخطاب الحقيقي يتسم بخصائص عدة: من جهة الانسجام الدلالي (صياغة صحيحة) و من جهة أخرى أن يكون حاملا لمعنى بالنسبة لعقولنا. فقولنا :" الفيلة تكذب" هي جملة صحيحة من حيث الصياغة اللغوية و لكنها لا معنى لها لأنها غير قابلة للتحقق.

ب‌) الحقيقة العقلية والحقيقة التجريبية.
يمكن الإقرار بحقيقة ما قبل التحقق التجريبي عن طريق العقل، مثلما يحدث في الحقيقة الرياضية ، لكن الحقيقة لا يمكن التأكد منها إلا بعد إقامة التجربة أي الحقيقة البعدية ، كما هو الأمر بالنسبة لقوانين الفيزياء ، المعادلات الكيميائية، الوقائع التاريخية، الإحصائيات الاجتماعية... إلخ. لهذا نتكلم عادة عن حقيقة عقلية في الحالة الأولى(ليبنز) وحقيقة واقعية (مادية)في الحالة الثانية(دفيد هيوم). والتي اجتهد كانط للتركيب بينهما
فالبرهنة العقلية لا تكفي وحدها لإثبات كل حقيقة، لأنها عملية عقلية خالصة لا يمكن التحقق منها عبر التجربة. وإن كان كل علم أو خطاب لا يمكن فهمه إلا باستعمال العقل، فالعقل ليس مستقل عن صيرورة بناء المعرفة إلا في مجال المنطق و الرياضيات.
و الحقائق الواقعية(المادية ) لا يمكن التحقق من صحتها باعتماد البرهنة العقلية لأنها تستند على التجربة، كما يجب استبعاد الخطابة التي تعتمد الأساليب البلاغية و تنطلق من الحس العام (المشهور لدى الجمهور) باعتماد الحجج. فالحقائق العقلية وحدها قابلة للبرهنة.

ج‌) إن كانت كل حقيقة تستدعي شرط البرهنة عليها فليست هناك حقيقة قابلة للبرهنة .
ذلك أن الرياضيات التي تعتبر نموذجا للعلم الذي يستخدم أعلى درجات البرهنة فهي تعتمد على معطيات (مسلمات) لا يمكن البرهنة عليها، ذلك أننا لو أردنا أن نخضع كل الأفكار التي يمكن الإنطلاق منها للبرهنة فإننا لن نتوقف بالرغم من النزول إلى المبادئ الأولية دون أن نؤكد أن هناك حقيقة أولى تعتبر منطلقات ومقدمات.
إذن إذا كنا نسعى إلى أن نخضع كل حقيقة للبرهنة فذلك لأننا لا نتوفر على مبدأ يسمح بالبرهنة على القضايا القابلة للبرهنة.
مثلا : يقر باسكال في روح الهندسة و فن الإقناع persuader بكل تأكيد فهذه الطريقة جيدة (التي تقضي بإخضاع كل معارفنا للبرهنة) ، ولكنها مستحيلة، فمن البديهي أن القضايا التي نحاول البرهنة عليها تقتضي قضايا أخرى تستند عليها، بحيث من الواضح أننا لن نصل أبدا إلى المبادئ الأولى، فكلما عمقنا البحث أكثر فأكثر، فإننا سنصل بالضرورة(...) إلى مبادئ و اضحة لن نجد ما يمكن أن يوظف كبرهان عليها."
انتقال /طفرة
لا يمكن إخضاع كل حقيقة للبرهنة، لأنه هناك حقائق الواقع، بل حتى ما نسميه حقيقة عقلية للفكر الإنساني فهو في حاجة إلى التوقف على حقائق غير قابلة للبرهنة، لكن كيف نتعرف على أنها حقائق؟ و إذا كانت كل حقيقة غير قابلة للبرهنة فما الذي يجعلني أفكر فيها باعتبارها حقيقة؟

2) البرهنة ليست الطريق الوحيد المؤدي إلى الحقيقة.
ا) البرهان بالخلف
إذا كان البرهان المباشر لا يسمح بتأكيد حقيقة المقدمات والمصادرات و الأكسيومات في مجال الرياضيات، لأنه مستحيل، فقد تم اعتماد طريق مخالف أي البرهان على خطإ أي مقدمة مخالفة لإثبات صدق المقدمة المنطلق منها و هو ما يسمى "البرهان بالخلف". و هي المنهجية ذاتها التي تستعمل من طرف الفلاسفة من أجل جعل المحاور يذعن للفرضية التي لا يمكن فحصها مباشرة. إذا لم نعتمد هذه الطريقة فنحن مطالبين بدعم الفكرة النقيض و بالتالي قبول النتائج المخالفة.
مثلا في مجال الهندسة الأوقليدية تقول المسلمة الخامسة " من نقطة خارج المستقيم لا يمر إلا مستقيم وحيد مواز له"، ولا يمكن البرهنة على هذه المسلمة ، لكن يمكن أن نفترض مسلمة مخالفة( أنه لا يوجد أي مستقيم مواز لمستقيم معلوم ويمر من نقطة معلومة أو يوجد أكثر من مستقيم يحقق الشرط ) بالخلف. لهذا فالهندسات اللاأوقليدية قد أظهرت أنه بالإمكان الإنطلاق من مسلمات مخالفة، مادمنا ننطلق من حدس فضاء مسطح/المستوى، لهذا قامت محاولة رجل الهندسة المعاصر ريمان على افتراض هندسة دائرية حيث لا يوجد مفهوم المستقيم (فهناك منحنيات دائرية) فهندسته التي أنشأها تميزت بالإنسجام ، ويمكن البرهنة عليها انطلاقا من المسلمات التي اقترحها.
أمام تطور الهندسة اللاأوقليدية فقد البرهان بالخلف فعاليته وجدواه، بل أصبحت النتائج تترتب منطقيا عن الفرضيات المقترحة في البداية، لأهذا ألا يمكننا القول أن المسلمات ليست حقائق لأنه لا يمكن البرهنة عليها؟ و هل يمكننا القول مع بوانكاري في العلم و الفرضية أن الميبادئ التي ينطلق منها الرياضي هي مجرد فرضيات رياضية تمت المواضعة عليها" لا يمكننا القول أن هندسة ما حقيقية بالقياس إلى أخرى بل يمكن القول أنها أكثر ملائمة".

ب ) البداهة الديكارتية
يعتقد ديكارت أن هناك طريقا آخر لبلوغ الحقيقة يختلف عن طريق البرهان: إنها البداهة، لهذا أقام تعارضا بين المعرفة الحدسية و المعرفة الاستدلالية discursif، فحدوسنا تدرك مباشرة و في لحظة واحدة الحقيقة، في حين يحتاج الاستدلال إلى الزمن و الذاكرة.التي تقوم على التمييز بين القضايا البسيطة و القضايا المركبة
بالنسبة لديكارت المبادئ التي لا يمكن البرهنة عليها هي حقيقية، كما هو الأمر مع مبدأ الكوجيطو (الميتافيزيقي). بحيث لا يمكنني البرهنة على أنني أفكر بل هي مسألة بديهية(إذا كنت لا أفكر فلا يمكنني أن أفكر أنني لا أفكر). فالكوجيطو هو الحقيقة الوحيدة الأولى، رغم أنها غير قابلة للبرهنة، ولكننا كذلك لا يمكن رفضها( و لكن يمكنني أن أرفض مسلمات أوقليدس إذا أردت ذلك).
من هذا المنطلق إن المفارقة، لأن مبدأ غير قابل للبرهنة فإنها تعتبر حقيقة أولى، وإذا تمت البرهنة على قضية فمعنى ذالك أنها تستند على مبادئ، لتصبح للبرهنة دورا ثانويا مقارنة بالحدوس الحسية، التي تسبقها وهي شرط لها.
فقد عرف سبينوزا البداهة " الحقيقة تدل على ذاتها كالخطأ" فالحقيقة لا يجب البرهنة عليها بل إنها تكشف عن ذاتها.

3) البرهنة والحدس باعتبارهما طريقين لبلوغ الحقيقة
يمكننا القول مع سبينوزا أن البرهنة هو طريق المعرفة و التي يسميها "الطريق الثانية" و البداهة هي " الطريق الأول" إنه أسمى و يمكن أن يحمل على نفس الحقائق. لهذا يمكنني أن أفكر من أجل البرهنة على أن 3 بالنسبة ل 6 هي 2 بالنسبة ل 4، لكننا لا نلاحظها بطريقة بديهية، من دون البرهنة عليها؟ فطول البرهان ينتهي بنا إلى إرهاق للفكر، لأننا لا نستطيع إدراك كل المحتويات و الآفاق، ولا يمكننا إدراك حدسيا كل البرهان.
انتقال:
بمعنى أنه ليست هناك حقيقة ليست قابلة للبرهنة بالضرورة، فحقائق العقل مثلا يمكن بلوغها عن طريق الدس، خاصة الحقائق الأولى غير القابلة للبرهنة و لكنها أساسية. لهذا ألا يمكن أن نقلص من دور البرهنة بالعلاقة بالحقيقة، ألا ينبغي أن نترك الأسبقية للواقعة و البداهة.
كل برهنة لا ترقى إلى مستوى الحقيقة
بعض مخاطر اعتماد العقلانية البرهانية في بناء الحقيقة.
باعتبار أن البرهان يعتمد كليا على العقل، ولا يستدعي التجربة، فالبرهان قد يثبت أشباه حقائق و هو ما يجعل من التجربة ضرورة، فلو أخذنا مثال الدليل الأنطولوجي على وجود الله الذي يعتمد القياس التالي ( الله كامل، لكن لو كان الله غير موجود لوجب وجود كائن أمسى منه ، ولن يكون إلاه، إذن الله موجود) فالخطأ يكمن في محاولة تجاوز الجوهر او مفهوم الله إلى وجوده، لكن هذا غير ممكن، لأنه لا يمكن تأكيد وجود شيء إلا عبر التجربة و ليس نتيجة استنتاجات العقل.
ـ يجب إذن التذكير أنه لا يكفي البرهنة على الحقيقة بل ينبغي استدعاء التجربة بالنسبة لحقائق الواقع، فكل ما تمت البرهنة عليه ليس حقيقيا بالرغم من أنه من الناحية المنطقية صالحا ، مما يفرض استحضار حدود العقل في إدراك الحقيقة.
ـ التفكير والمعرفة
يؤكد كانط أنه لا يمكن بناء المعرفة من دون تجربة، فهي تستدعي المعطيات التي تمدنا بها الحواس ( الحدوس الحسية) و الأفكار التي تنتج عن الفهم ( المقولات العقلية) ، فبدون مقولات عقلية الحدوس الحسية عمياء، وبدون حدوس حسية المقولات العقلية جوفاء. فمعرفتنا لا يمكن أن تتجاوز الحدوس الحسية ، ولكن يمكن التفكير من دون معرفة بالنسبة للقضايا التي لايمكن إخضاعها للتجربة و الإدراك الحسي مثل الله، الروح، العالم.
مما يعني أنه لا مجال لأن نتكلم عن حقيقة خارج التجربة، فالبرهان الذي لا يقوم على مفاهيم يصبح كلاما فارا من غير معنى، لأنها لا يمكن إخضاعها للتجربة، فعلم اللاهوت (علم الله) ليس معرفة بالمعنى الحقيقي للمعرفة لأنه يمكن تجنيد البرهان دون أن يتمكن من إثبات الحقيقة.
إذن يمكن بناء على الحجاج السابق أن نقول أن البرهان ليس الحقيقة، وأنه لافائدة من البرهنة، للإقتناع بحقيقة وجود موجودات متافيزيقية.

حقائق الفكر وحقائق القلب.
إن هذا التمييز هو الذي قاد باسكال وقبله الغزالي في كتابة المنقذ من الضلال إلى الخلاصة التي تقر بأن هناك حقائق لا يمكن للعقل الوصول إليها،بل نور يقذفه الله في قلب المؤمن وأن للقلب علله التي لا يمكن للعقل أن يدركها أبدا، فالإيمان من المستحيل الاقتناع به عقلا، فهو أصم أمام كل برهان، فوجود الله لا يمكن البرهنة عليها كما هو الأمر بالنسبة لنفي وجوده، بل يمكن الإيمان به فقط.
بالرغم من دلك أبرز الغزالي أن استعمال العقل ممكن، ولكن ضد العقل نفسه، بمعنى للاستدلال على ان العقل غير كاف(كما قال الباحث هنري كوربان حاول الغزالي بكل ما أوتي من جهد على أن العقل لا يبرهن شيئا وبرهن على دلك ببراهين عقلية) وأنه يمكن تجاوزه بأشياء أخرى، ليصبح الأمر شبيها بالبرهان بالخلف، لا يمكن للمرء أن يجعل للعقل قيمة عليا دون أن يسقط في مشاكل كبرى و نتائج عجيبة.
فالإنسان هو كائن ضعيف لكي يكتفي بعقله، مما يجب عليه حسب باسكال أن يقبل بعض الحقائق( حقائق القلب) التي لا يمكن البرهنة عليها، والتي يتم الوحي بها من طرف الدين و التي يمكن بلوغها عن طريق الإيمان.

خلاصة:
كل حقيقة لا يمكن البرهنة عليها ، لأنه هناك أنواع من الحقائق، فهناك حقائق الواقع التي يمكن التحقق منها تجريبيا و لا يمكن البرهنة عليها، يضاف إلى ذلك حقائق العقل (التي تعتمد مبادئ من طبيعتها أنها غير قابلة للبرهان)البداهات ، مما يوجب التخلي عن طموح الرغبة في إخضاع كل الحقائق للبرهنة و وضع حدود للعقل، فكل برهان واستدلال ليس أبدا حقيقة.
لكن بالنسبة لحقائق القلب هل من المشروع الاعتراف بأي وحي أو ايمان ديني كيفما كان شكل هذا الدين، فالمطالبة بالتخلي عن البرهنة على الحقائق القلب ( الدين) ألا يعني أنه نوع من التخلي عن نقدها على مستوى قيمتها المعرفية وليس على مستوى حقائقها.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire